يعتبر الإمام العلامة علي بن محمد الحبشي من أشهر الشخصيات العلمية التي أنجبتها حضرموت ما بين عامي (1259- 1333ه)، تلقى علومه الشرعية واللغوية على مشايخ حضرموت والحرمين الشريفين كالعلامة أبي بكر بن عبدالله العطاس ووالده العلامة محمد بن حسين الحبشي مفتي الشافعية في مكة والعلامة أحمد بن زيني دحلان مفتي مكة، ثم توطن مدينة سيوون ودرس في مسجد حنبل ثم فتح بها معهده العلمي الشهير برباط الحبشي سنة 1296ه وبنى بجانبه مسجد الرياض ونشر فيه العلوم الفقهية والحديثية والعربية، وتوسع في دراسة علوم النحو والصرف والبلاغة بعكس ما كان عليه الحضارمة من الاقتصار على دراسة بعض المختصرات النحوية. فوفد إلى ذلك الرباط الآلاف من الطلاب من مناطق ساحل وواديي حضرموت ودوعن وعمان وشرق أفريقيا وجاوه واليمن والشام ونبغ فيه علماء أفذاذ فقهاء وقضاة وشعراء بلغاء منهم شاعر حضرموت العلامة أبوبكر بن عبدالرحمن بن شهاب والعلامة عبدالله بن عمر الشاطري والعلامة اللغوي محمد بن سعيد باطويح الشحري الذي نعت بسيبويه عصره وباهى به شيخه علماء الأزهر في علوم العربية. وبعد إقامة ذلك المعهد الديني ونجاح تلك الفكرة المبتكرة في العصور الحديثة إذ كانت موجودة في السابق ولكنها لا تؤدي عملها مثل اليوم وإنما هي عبارة عن خانقاه للصوفية، ولما مرت ثمان سنوات تحركت همة علماء تريم أمثال مفتي الديار الحضرمية العلامة عبدالرحمن بن محمد المشهور(ت1320ه) وغيره من السادة آل الجنيد وآل الشاطري والمشايخ آل عرفان بتحفيز من الإمام الحبشي واستشارته في إقامة رباطا لطلاب العلم بتريم، ومع ما لاقوه من منع شديد من قبل بعض الأعيان والأهالي، ولكن الإمام الحبشي شد على أيديهم في تنفيذ ذلك المشروع، فقاموا ببنائه سنة 1304ه وافتتح في محرم 1305ه، وتصدر فيه علامة الديار الحضرمية الحبيب عبدالرحمن المشهور وتخرج على يديه جماعة من العلماء، ثم تصدر فيه تلميذ الإمام الحبشي العلامة عبدالله بن عمر الشاطري منذ عام 1314ه حتى وفاته عام 1361ه وازدهر في عهده الرباط حتى نسب إليه، ووفد إليه الطلاب من شتى أصقاع المعمورة واستفاد منه الخلق الكثير قدر عددهم بثلاثة عشر ألف طالبا من شتى الأقطار، وصار الرباط كما نعته العلامة محمد بن أحمد الشاطري ب(أزهر حضرموت)، ومازال ذلك المعهد قائما إلى اليوم يؤتي أكله كل حين بإذن ربه بصدارة شيخنا العلامة السيد سالم بن عبدالله بن عمر الشاطري. وفي عينات قام العلامة الحسن بن إسماعيل ابن الشيخ أبي بكر بن سالم أحد تلاميذ الإمام الحبشي ببناء رباطا لطلبة العلم ، وفي قيدون أيضا قام تلميذيه العلامتين عبدالله بن طاهر وعلوي بن طاهر آل الحداد ببناء رباط لطلبة العلم. وأما في ساحل حضرموت فقد أقام العلامة محمد بن عمر بن سلم رباطا للعلم في غيل باوزير سنة 1320ه باستشارة شيخه الإمام الحبشي حيث أرسل له رسالة يستأذنه في كتابة صيغة ونية الوقفية لذلك الرباط عام 1320ه لأن بناء الأربطة في حضرموت سنة من سنته والناس تبع له على حد قوله في تلك الرسالة، وتخرج على يديه الكثير من العلماء الفقهاء والقضاة الذين صاروا عماد الساحل الحضرمي منهم العلامة محسن بن جعفر أبو نمي مؤسس المعهد الديني بالغيل. كما قام تلميذه العلامة علوي بن عبدالرحمن المشهور وجماعة من أعيان الشحر بتأسيس مدرسة مكارم الأخلاق سنة 1337ه ، وقام بعضا من تلاميذ تلاميذه كالشيخ عبدالكريم الملاحي والشيخ عوض بن عروة وغيرهم بتأسيس مدرسة الهدى والفلاح بالحامي سنة 1353ه ، ثم قام تلميذه العلامة عبدالله بن عبدالرحمن بن الشيخ أبي بكر بتأسيس رباط المصطفى بالشحر سنة1370ه. ثم قام بعضا من تلاميذه تلاميذه في المشاركة بتأسيس جامعتي حضرموت والاحقاف كالعلامة السيد عبدالله بن محفوظ الحداد والسيد العلامة محمد بن أحمد الشاطري. ويعتبر الإمام علي بن محمد الحبشي الرائد الأول في نشر التعليم بحضرموت وإقامة مؤسسات خاصة به تستقبل الطلاب الافاقيين من شتى الأقطار وذلك بتأسيسه رباطه العلمي ، وبدأ التعليم تمتد جذوره في المجتمع الحضرمي في إقبال الطلاب على دروسه وحلقه، ويعود له الفضل في نشر علوم العربية من نحو وصرف وبلاغة والتوسع فيها، حيث كان أهل حضرموت لا يولونه كثير اهتمام وإنما معرفة ما يصحح ألسنتهم في النطق فقط، وقد جعل له حلقات خاصة بعد الفجر حتى أنه قال في مجموع كلامه :" كنا في مسجد حنبل نقيم كل يوم ثلاثة مدارس وكلها في النحو إلا مدرس واحد في الفقه"، وكان يأتي إلى الرباط البدوي الغلق فلا يخرج منه إلا وهو نابغة في علم النحو يحقق مسائل شرح الاشموني على ألفية ابن عقيل وحاشيته للصبان كما هو الحال في تلميذه صالح الحمومي من بادية الديس الشرقية. وكان الإمام الحبشي يدارس طلابه في إعراب العديد من الشواهد والأبيات الشعرية ويلقي عليهم الألغاز الشعرية والنثرية طالبا منهم استخراج ما فيها من الأحكام، وبذلك يرسخ في ذهنهم تلك القواعد ويحبب إليهم علم النحو وقواعده ذلك العلم الذي ينفر منه العديد من طلابنا في هذه الأيام. وشعر العلامة الحبشي في ديوانه الحكمي ونثره في مكاتباته وإجازاته لتلاميذه يبرزان تلك الخاصية التي اختص بها من بين علماء حضرموت من التوسع في علوم العربية ونشرها، وما قصة مولده (سمط الدرر في أخبار مولد خير البشر) إلا دليل بسيط على تفوقه اللغوي حتى انبهر به علماء مصر وأعجبوا بفصاحة وبلاغة مؤلفه وقالوا ما كنا نظن أن بحضرموت عالما بهذه المثابة من البلاغة والفصاحة ولو علمناه لأعطيناه لقب (أمير البيان) بدل الأستاذ شكيب أرسلان ولأبدلنا شكيبا بلقب آخر.(1) ولما طبعه مفتي الديار المصرية الأسبق الشيخ حسنين محمد مخلوف (ت 1990م)، في الخمسينيات الميلادية قام ببعض الحذف ظنا منه أنه خطأ نحوي، فمن ذلك قام بحذف النون من فعلي فيدخلان ويتروحان في قوله ( ولعل اللهَ ينفع به المتكلم والسامع فيدخلان في شفاعة هذا النبي الشافع ويتروحان بروح ذلك النعيم) ، ولكن الإمام الحبشي أثبتهما لأنه لايريد إعمال الفاء على مذهب الكثير من النحويين ومنهم ابن هشام، وإنما هي عاطفة والمعطوف على المرفوع مرفوع، وكذلك قراءة جمهور القراء لقوله تعالى (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى) سورة غافر، قرأ جمهور القراء فأطلع بالرفع ما عدا حفص فنصبها، وهذا الدليل من أقوى الأدلة التي أفحم بها حفيده العلامة أحمد بن علوي بن علي الحبشي الشيخ المذكور عندما قابله في مكةالمكرمة. وقد فصّل الحديث عن تلك المسألة الشيخ عبدالرحمن بن عبدالله بكير في بحثه القيم ( لكي لا نقع في عِرض أسلوب الإمام الحبشي) الذي يقول فيه ردا على الشيخ مخلوف وأمثاله: " إنه لو أراد الإمام الحبشي غير ما حرره لكان له ما أراد ، ولكنه قد خط بيده ما يريد، أو أملى بلسانه مايريد، وراجعه تحت عينه وسمعه، وقرأه وقرئ عليه مرارا وتكرارا ، لقد كان متأكداً من صحة ما كتب كما كان متأكداً مما كان يريد، ومن عرف ما يريد سلك إليه أقرب الطرق وأوضحها بياناً وأكثرها أماناً ... إلا أنه ليس بغريب على من لم يعرف إلا أمرا واحدا ، أن يطعن في علم غيره ويظن أن ما عرفه وأصر عليه هو كل العلم وأنه هو كل شيء. أما من كانت دائرة علمه واسعة ورحبة وضاربة جذور هذا العلم منه في الأعماق البعيدة، وممتدة في الأفق على طوله وعرضه، فانه يرى من زوايا متعددة، وبأوسعها وأبعدها مدى ويغترف من الأعماق، ومن أعمقها علما، ثم يتصرف بأحسن التصرفات وأرشدها، وينصب لذلك أوفى الموازين، ويضع أعدل المقاييس للأخذ والعطاء .. ومن هنا تظهر عظمة هذا الإمام ويظهر علمه العظيم".(2) وفيه يقول تلميذه العلامة الأديب حامد بن محمد بن سالم السري " ومن نحا نحو منطقه وارتضع ثدي معاني بيان بلاغته كان في اللغة جوهري تنكيتها بصحاح عبارات يحار من بلاغتها سكيتها وابن سكيتها، أو نظر إلى أبيات شعره سيرى قصورا مشيدة وفقر رسائله كل فقرة منها معدودة بقصيدة ، والذي يفخر به حقا كل علوي تأليفه سمط الدرر في مولد خير البشر الذي به الألسن تُقر والأعين والقلوب تَقَر من نثره العالي ما جمع الحسن أجمع، وأتبعه من شعره الغالي بما لم ترَ أجود منه ولا تسمع ، فقد رصّع فيه قلائد العقيان في نحر البلاغة مجملا ، ونظم عقد درر الصحيحين وغرر الصحاح من نظمه ونثره مفصلا ، فحضرموت به قد تشرفت وبحلول ركابه تزخرفت ، وفاحت الغنّاء من روض بهجته نور نشرها الأريج ، ورويت سيوون من رؤية صوب صوابه وأنبتت من كل زوج بهيج".(3) ويقول الشيخ عبدالرحمن بكير عن شيخ شيوخه الإمام الحبشي في دراسته السابقة:" إمام كبير وعظيم في كثير من علوم الشريعة والعربية إن لم يكن فيها كلها، وأنه في عصره وفي قطره بل وفي غير قطره لايجارى، ولا يسبق ولا يبارى، وهو في علوم العربية بالذات ابن بجدتها وحامي بيضتها، وأنه لانظير له ولا شبيه في الإحاطة بها والغوص في أعماقها، ولذلك كان الخبير بأنجادها وأغوارها، والعليم بدقائقها وأسرارها، والحاذق بمجاري محيطاتها وبحارها، وإذا قال قولا فيها فقوله الفصل، وتعبيره الجزل وحديثه الصحيح والفصيح ، ونثره وشعره مستقر ومستودع الاستشهاد ... ولقد كان يضرب المثل بشيخ مشايخنا في فهم وعلم اللغة العربية وقواعدها ونصوصها، بل لقد كان مرجعها الذي يرجع إليه، كلما اختلفت الآراء وتضاربت الاتجاهات، وطالما أرجع ظلمات مشكلاتها ضياءً، وسواد معضلاتها نوراً، وليل دجُنّاتها نهاراً. لقد كان يضرب المثل بتلامذته ومريديه في علوم العربية، وطالما أطلق على معهده ورباطه العلمي في سيؤون من بلاد حضرموت أنه كهف اللغة العربية في كل فروع علومها، والقائم الأمين على حفظها، والقوي الحامل لأختامها .. فقد كانت اللغة العربية في كل فروعها درساً وبحثاً وتطبيقاً وصياغةً من مميزات هذا المعهد العظيم ، بواسطة شيخه العظيم". (4) فرحم الله الإمام الحبشي الداعي إلى العلم بقوله وفعله والقائل في إحدى قصائده: تنكر وقتي أورث الحزن والهما وكيف وأهل الوقت قد أهملوا العلما فقد كان هذا القطر للعلم مظهرا ومن أهلها تلقى به عددا جما فأضرم فيه الجهل نارا تلهبت فلم تبق من علم الشريعة إلا اسما الهوامش: (*) مقتبس من دراسة للكاتب بعنوان: (أثر دعوة الإمام الحبشي في ساحل حضرموت). ( ) غذاء الأرواح والفكر في شرح مولد سمط الدرر للسيد حسين بن محمد بن الشيخ أبوبكر. (2) لكي لا نقع في عِرض أسلوب الإمام الحبشي، دار حضرموت 2010م ، ص 15، 25. (3) الغصن الطري من حدائق الفكر الثري، حسن علي حامد السري، ص 74 ، 75. (4) لكي لا نقع في عِرض أسلوب الإمام الحبشي، ص 7، 32. * بقلم: محمد علوي باهارون [email protected]
