لماذا حدث طوفان نوح، ولماذا هلكت البشرية بتلك الطريقة، وهل يمكن أن يتكرّر ذلك أو يحدث حالياً، وما السبب الذي يدفع إلى حدوث تلك الكارثة وإفناء البشرية بتلك الطريقة..؟!. استخدمت ثيمة طوفان نوح في أفلام عديدة حول كوارث تحل بالعالم، ولعل أهمها وأشهرها هو فيلم “2012م” لرولاند أميرش الذي يتخذ من حدث فلكي عادي فكرة لتبرير نهاية العالم، التي لن تعني أكثر من نهاية الحياة على الأرض بسبب حوادث جيولوجية أو خلافه، فالعالم سيستمر حتى بعد نهاية تلك الحياة، ولكن إطلاق صفة النهاية عليه تشير إلى عدم جدواه بعد فناء البشرية، وشعب المايا الذي عاش قديماً في القارة الأميركية الجنوبية وحده حدّده - بحسب تقويمه المتبع حينها - ليصادف 21/12 /2012م، برغم أن ثمة من يؤكِّد أن المايا لم يقرّر نهاية العالم في ذلك التاريخ، لكن تقويمه انتهى في ذلك اليوم، ولم يعمَّر هذا الشعب أكثر ليعيد إنتاج تقويم جديد له عند الاقتراب من ذلك اليوم. الحدث الفلكي الذي يبرّر به أميرش نهاية العالم هو الانقلاب الشتوي، والذي يعني وقوع الأرض عند أكبر مسافة زاوية على طرف مستوى خط الاستواء، ويحدث هذا خلال ثلاثة أيام من 20 وحتى 23 ديسمبر من كل عام في نصف الكرة الشمالي، ومن 20، وحتى 23 يونيو من كل عام في نصف الكرة الجنوبي، وهي الأيام التي يقصر فيها النهار إلى أقصى حد، ويحدث العكس تماماً لليل. إلا أن المخرج دارين أرونوفسكي عاد نحو البدايات نفسها واتجه إلى قصة نوح ذاته، ومنها اقتبس قصة فيلمه الإشكالي الأخير “نوح” أو “Noah” الذي كان يعيش بطمأنينة وهدوء مع عائلته المكوّنة من ثلاثة أطفال «سام، حام، ويافث» الرضيع قبل أن تأتيه رؤيا في منامه تغرق الأرض فيها ويشاهد خلالها فناء البشرية التي كانت تعاني من انحراف سلوك أهلها وانتهاجهم الشرور كوسائل للحياة، فيتأكد له أن تلك رسالة من الله كلّفه فيها بإنقاذ الكائنات الحيّة ما عدا الإنسان، ويذهب إلى أخذ المشورة من جدّه الذي يعتكف في جبل بعيد، ثم يبدأ بناء السفينة التي ستأوي إليها الكائنات الحيّة هرباً من الطوفان الذي لن يبقي شيئاً، وتقوم الملائكة بمساعدته في بناء السفينة العملاقة. وبرغم أن تجربة كهذه لابد أن تتم صناعته بدقّة وأناقة، وأن يتم بناؤها الدرامي على نحو متسق وتصاعدي يصل إلى الذروة والنهاية بشكل متسلسل يمنح التشويق والإثارة ويؤكد على متانة النص السينمائي؛ إلا أن أرونوفسكي انتقل بنوح من مشهد مقتل والده في طفولته إلى مشهد آخر وهو مع أولاده دفعة واحدة، وهو ما أفقد النص أحد ركائزه وهي ركيزة البناء الدرامي المتماسك والسليم. ولم يكن كافياً مقتل والد نوح في طفولته، ومشهد إنقاذه لحياة حيوان أصيب على أيدي بعض الصيادين ليمنح المشاهد انطباعاً كافياً على التكوين النفسي لشخصية نوح، وإلى جانب ذلك لم يكن من السهل أن يتعرّف المرء على ماهية الشر ومفهومه لدى نوح، فهو يردّد طوال الفيلم أن البشرية تستحق الفناء نتيجة ما ارتكبته من شرور، إضافة إلى التناقض الذي حدث بين نوح وجدّه، فهو رغب في فناء البشرية بأكملها، فيما قام جدّه بمباركة خليلة سام ومنحها القدرة على الإنجاب التي كانت قد فقدتها بسبب جرح عميق في أحشائها حدث خلال غارة على مدينتها التي أبيد كل سكانها، ولم ينجُ منها أحد سواها، ليجدها نوح وعائلته في طريقهم، وعندما أيقن نوح من فناء البشرية وانقطاعها تماماً بانقطاع نسله، حملت الفتاة فجأة وهم على ظهر السفينة، فقرّر نوح قتل المولود إن كان أنثى، والسماح له بالحياة إن كان ذكراً؛ لأن الأنثى ستكون سبباً في استمرار الحياة. ولكم تبدو مضحكة الملابس التي يرتديها أبطال الفيلم، فهي ملابس حديثة لا يمكن أن يتصوّر أحد أن زمن نوح عرفها، كما أن الأحذية قوية ومتينة وتبدو من إنتاج أعرق الماركات العالمية، وهذه المسألة التقنية كان بإمكان أرونوفسكي تجاوزها بسهولة، خصوصاً أن التكنولوجيا قادرة على مساعدته في ذلك لو أنه أعمل خياله قليلاً، ويُضاف إلى ذلك أداء راسل كرو المتدنّي وغير اللائق بمكانته، والظهور الباهت لبقية الممثلين بما فيهم أنطوني هوبكنز الذي أدّى دور جد نوح، ولم ينقذ الفيلم من هبوط أداء الممثلين فيه سوى جنيفر كونيللي التي كانت ملامحها وحركاتها وانفعالاتها بحجم ومستوى الدور الذي تؤدّيه كزوجة لنوح والمواقف التي نفّذتها. أما عن شخصية نوح ذاتها فظهرت باهتة وغير مقنعة، ربما كانت الإثارة الدرامية أخفت الكثير من عيوب الشخصية، لكن نوح في النهاية لم يظهر سوى أبله أو مجنون، ولم يكن نبيّاً بما يكفي أو صاحب رسالة كما ينبغي، وظهر هشّاً وضعيفاً، أو صارماً وعنيداً كشخصية غير سوية أو منطقية، ولم يكن لائقاً ذلك المظهر المشوّه والبشع للملائكة، وكان على المخرج ومدير التصوير أن يختارا مظهراً آخر، مظهراً يكون قريباً للتصوّر العام للملائكة على الأقل. ويبدو أن أرنوفسكي لم يقم بإخراج هذا الفيلم من أجل قصة نوح ذاتها، بل من أجل البحث عن بدايات البشرية ومجيء الإنسان قبل مولد الحضارات، أي بدافع الشغف المعرفي، وتخيّل كيف جاء الإنسان، خصوصاً وهو صاحب فيلم “النافوة” الذي يحكي عن شجرة تسمّى «شجرة الحياة» القادرة على منح الإنسان الخلود الأبدي، ويستند فيها إلى اعتقادات شعب المايا، لكنه فشل في هذه النقطة، لأنه لم يشر إلى كيفية تكوُّن الخلق وبدء الحياة إلا كملامح عابرة في تفاصيل كثيرة، لكنه بدأ بالبشرية منذ ما بعد الطوفان، كأن البشرية تخلّصت آنذاك من الشرور وبدأت من جديد. القصة التي ساقها أرونوفسكي محرّفة ومزوّرة عما جاء في الكتب الدينية المقدّسة ومنها «القرآن» ولا تتطابق معها إلا في بعض التفاصيل، ففي القرآن مكث نوح يدعو البشر 950 عاماً، أما نوح في هذا الفيلم فهو لم يدعُ أحداً، بل مباشرة قرّر على إثر تلك الرؤيا أنه حان موعد فناء البشرية بكاملها..!!. ومن الأمور التي حاول أن يتميّز بها أرنوفسكي، العناية بالآثار النفسية لأي حدث يشهده فيلمه، أو أنه يقوم باختيار قصص ذات سيرورات تعتمد على الانفعالات النفسية للشخصيات، ومتابعة التطوّرات التي تحدث للشخصية من خلال تتابع الأحداث، وعلاقة الشخصية بمحيطها والمهن والوظائف التي تؤدّيها في الحياة، وتأثير المهام الحياتية عليها. نجا حام بن نوح من الطوفان، ولم يأوِ إلى جبل يعصمه من الماء كما تعلّمنا من القرآن، ولم يأخذ نوح في سفينته أي إنسان سوى أسرته، بل إنه تخلّى عن صديقة حام لأنه أراد هلاك البشرية التي ملأت الأرض بالشرور، إذن فأرنوفسكي لم يكن يقدّم قصة نوح كما نقلتها الأديان السماوية، بل كما أرادها هو، كما أراد لرسالته أن تصل، أن الأرض امتلأت بآثام البشر ولابد من تطهيرها. لكن نوح في قصّة أرنوفسكي وجد نفسه أمام مشكلة حقيقية وكان على وشك أن يقتل حفيدتيه كيلا تستمر حياة البشر، إلا أنه فشل في اللحظات الأخيرة، لأن إنسانيته تغلّبت على الأوامر التي يتلقّاها وهي رسالة أخرى، فالحياة لابد أن تستمر مهما كانت سيادة وسطوة القسوة، وليس من حق أحد أن يوقف حياة ما، حتى وإن كان هو واهبها. لكن إذا كان نوح يعلم بفناء البشرية مسبقاً قبل الطوفان؛ لماذا سعى إلى إنقاذ ابنه حام وهو يعلم مسبقاً أنه سيموت، بل هو الذي كان يسعى إلى هذه النهاية..؟!. [email protected]