خلال الأيام القليلة الماضية كنت أراجع في مصلحة الأحوال المدنية .. ولأنها كانت المرة الأولى التي أزور فيها هذا المكان منذ سنوات عديدة ، فقد أصبت بشيء من الذهول ، ما كنت أتصور أن الحال كما هو عليه من البؤس منذ سنوات طويلة ، خاصة في مؤسسة حيوية كهذه .. لقد أدهشني المبنى ، أو بالأصح الموقع ..! فهو عبارة عن مكان مفتوح ، لا تحده جدران أو سقوف .. مكاتب الموظفين والموظفات فيه عبارة عن أحجار وضعت عليها ألواح خشبية مهترئة .. وليس كل الموظفين قد حازوا هذا الشرف ، وإنما البعض فقط ممن دعت له أمه كثيراً ، وإلا فهناك الكثير ممن يعمل بحرية مطلقة ، لا تقيده الكراسي أو المكاتب ، وعلى المراجع أن يشحذ كل قواه في ملاحقته ، من أجل الحصول على ختم أو توقيع .. وللأمانة فالحال ليس هكذا تماماً ، فهناك مكاتب مغلقة (خمسة نجوم ) فرشها التراب وكراسيها الأحجار وقطع البلك..! عبثاً تحاول فيها الحفاظ على أناقتك ونظافة ملبسك .. فمع كل حركة بسيطة من قبلك أو ممن حولك يتحرك كذلك التراب الذي تحت أقدامكم..! ويثار الغبار فيضفي على مظهرك مسحة من الزهد والتواضع .. وخاصة على السواد الذي ترتديه النساء..! وبذلك تكون قد كفيت هم وعناء الأناقة والمظهر اللائق إذا اضطررت لارتياد هذا المكان..!. ومع كل ذلك فقد نظرت إلى الأمر بإيجابية ، فما أجمل العمل في مكان مفتوح ، تحت ظلال الأشجار ، تهب عليك فيه نسمات الهواء الباردة بين الحين والآخر فتلطف من حرارة الجو ، وتلطف النفوس كذلك من التوتر وملل الانتظار .. ولكن ولمزيد من تأكيد للهوية اليمنية الفريدة ، فلابد من وجود موظف يحاول ابتزازك ومساومتك على (حق القات) مقابل تخليص معاملتك بأسرع وقت ، ولابد أن تجد من ينهرك باسم النظام والقانون ، لينسف كل النظم وكل القوانين ببضع ورقات نقدية تدسها في جيبه ..! ولكن ومن وسط كل هذه الصور المزعجة تتجلى صورة في غاية الروعة .. موظف يبادر إلى أداء واجبه برحابة صدر وإيجابية.. يخدم المراجعين بذوق ولطف غير مألوفين في وقتنا الحاضر، وفي مثل هذه الأماكن تحديداً .. الحقيقة في بداية الأمر وأنا أراقب سلوك هذا الموظف، قلت في نفسي: لابد أنه يأمل في الحصول على (المعلوم) مقابل هذه الخدمات، كغيره من الموظفين، إلا أنه لا يجاهر بالطلب، بصراحة لقد استحسنت الفكرة ، فقليل من المال مقابل أن يكفيني مأونة الذهاب والإياب، ومراجعة هذا الموظف ، واستجداء هذه الموظفة، والالتزام بالوقوف في الطابور الطويل .. ولكن المفاجأة الحقيقية كانت عندما رفض هذا الموظف أخذ ذلك المبلغ رفضاً قاطعاً ، واستكمل إجراءات المعاملة بنفس الروح الايجابية التي يتعامل بها مع جميع المراجعين .. شعرت بشيء من الصدمة والإحراج ، ولكني شعرت بكثير من السرور والأمل يشع في نفسي من جديد ، وتفاءلت كثيراً أن الخير لا يزال باقياً وسيظل باقياً في أمتي بإذن الله .. فكل الشكر والتقدير لهذا الموظف، ولكل من يؤدي عمله بأمانة وإخلاص، ويساهم في ترميم ما يمكن ترميمه من بقايا هذا الوطن المثقل بالفساد..