التعاون الخليجي يجدد دعمه لكافة الجهود الرامية للتوصل إلى حلٍ سياسي وفقاً للمرجعيات    دعت لإلغاء أوامر الإعدام فورا.. العفو الدولية: الحوثيون يستخدمون القضاء أداة للقمع السياسي    الزُبيدي يرأس اجتماعاً استثنائياً لمجلس الوزراء مميز    تحت راية العلم اليمني.. عيدروس الزبيدي يرأس "اجتماعا استثنائيا" لمجلس الوزراء وتوجيهات رئاسية توجع الحوثيين    فرقاطة إيطالية تصد هجوماً للحوثيين استهدف السفن التجارية في البحر الأحمر مميز    مقطع فيديو جديد لتعذيب شباب يمنيين على يد الجيش العماني "شاهد"    الشرعية تؤكد تعذيب الجيش العماني لسبعة يمنيين!!    تصفيات آسيا مونديال 2026: طاريمي يقود ايران للفوز على هونغ كونغ    لامين يامال الاقرب للفوز بجائزة الفتى الذهبي 2024    عودة نظام الرهائن.. مليشيا الحوثي تواصل الضغط على صحفي معارض باختطاف طفله    دول الخليج الغنية تستغني عن الديزل لتوليد الكهرباء ولصوص الشرعية يصرون على استخدامه    ضبط شحنة قطع غيار خاصة بالطائرات المسيرة في #منفذ_صرفيت    الاتحاد الدولي لكرة الطائرة: يدعم مشاريع اللعبة في جميع أنحاء العالم    أكثر من 30 شهيدا جراء قصف الاحتلال مدرسة تؤوي نازحين وسط قطاع غزة    مشروع "مسام" ينتزع 1.406 ألغام خلال أسبوع زرعتها المليشيات الحوثية الارهابية    عن تجربتي مع الموت!    إعلان حوثي بشأن موعد استئناف الرحلات الجوية من مطار صنعاء إلى الأردن    الحوثيون يطلقون سراح أحد مشائخ بني مطر بعد سجنه للمرة الثانية في محافظة صنعاء    محمد بن زايد.. رسائل من الشرق    الوحدة التنفيذية للاستيطان اليمني    لماذا الآن تفجير الصراع في حضرموت عبر "قوات درع الوطن"    جيسوس يفوز بجائزة الافضل في الدوري السعودي لشهر مايو    تحريك قوات درع الوطن في حضرموت يرفع منسوب التوتر بين الانتقالي الجنوبي والشرعية اليمنية    مأساة في تعز: غرفة النوم تتحول إلى فخ قاتل لعائلة    هل تُكسر إنجلترا نحس 56 عامًا؟ أم تُسيطر فرنسا على القارة العجوز؟ أم تُفاجئنا منتخبات أخرى؟ يورو 2024 يُقدم إجابات مثيرة!    رسالة رادعة: القصاص الشرعي رمياً بالرصاص لمدانين بجرائم قتل في عدن    السعودية توجه رسالة وصفعة كبيرة للحوثيين بعد قيامها بأمر هام في البحر الأحمر    نقابة المهن الفنية الطبية في تعز تدين الاعتداء على رئيسها وتدعو لمحاربة الفساد    محافظ عدن أحمد لملس يتفقد أوضاع الأسر المتضررة من انهيار مبنى في كريتر    "صخب الرصاص: معارك مستمرة تستعر في مواجهة الحوثي بأبين"    ليست صراع بنوك...خبير اقتصادي يكشف مايجري بين البنك المركزي بعدن وبنوك صنعاء    الكيان الإرهابي بين عشيّتين    الخطوط الجوية تنفي إيقاف الرحلات بين صنعاء وعمّان    ارتفاع حصيلة ضحايا العدوان الإسرائيلي على غزة إلى 36586 شهيدا و 83074 جريحا    الماجستير بامتياز للباحثة عبير عبدالله من الاكاديمية العربية    السفير اليمني يزور المنتخب قبل مواجهة البحرين    السعودية تضع حجر الأساس لمشروع إنشاء كلية الطب في مدينة تعز مميز    في وداع محارب شجاع أسمه شرف قاسم مميز    تقرير أممي: أكثر من 6 ملايين شخص في اليمن بحاجة لخدمات المأوى هذا العام مميز    الوزير الزعوري يدعو المنظمات الدولية لدعم الحكومة في تنفيذ الإستراتيجية الوطنية لكبار السن    عصابات فارس مناع تعبث بالآثار في إب لتهريبها للخارج    مدير منفذ الوديعة يعلن استكمال تفويج الحجاج براً بكل يسر وسهولة    التأثيرات السلبية لقراءة كتب المستشرقين والمنحرفين    العشر الأوائل من ذي الحجة: أفضل أيام العبادة والعمل الصالح    إنهيار منزل من 3 طوابق على رؤوس ساكنيه بالعاصمة عدن    الاتحاد السعودي معروض للبيع!.. تحرك عاجل يصدم جمهور العميد    لم تستطع أداء الحج او العمرة ...اليك أعمال تعادل ثوابهما    ارتفاع حالات الكوليرا في اليمن إلى 59 ألف إصابة هذا العام: اليونيسيف تحذر    يكتبها عميد المصورين اليمنيين الاغبري    سلام الله على زمن تمنح فيه الأسماك إجازة عيد من قبل أبناء عدن    من جرائم الجبهة القومية ومحسن الشرجبي.. قتل الأديب العدني "فؤاد حاتم"    أغلبها بمناطق المليشيا.. الأمم المتحدة تعلن ارتفاع حالات الإصابة بالكوليرا في اليمن    وكالة المسافر للحج والعمرة والسياحة بحضرموت تفوج 141 حاجاً إلى بيت الله    وفاة ضابط في الجيش الوطني خلال استعداده لأداء صلاة الظهر    إعلان قطري عن دعم كبير لليمن    5 آلاف عبر مطار صنعاء.. وصول 14 ألف حاج يمني إلى السعودية    خراب    ثالث حادثة خلال أيام.. وفاة مواطن جراء خطأ طبي في محافظة إب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بداية محاكم التفتيش في تاريخ المسلمين
نشر في 14 أكتوبر يوم 11 - 01 - 2011

المقصود بمحاكم التفتيش هو محاكمة الفكر ، خصوصا الفكر الديني ، وغالبا ما يكون ذلك لأغراض سياسية، أي ارتبطت محاكم التفتيش للمفكرين بحقيقتين ، الأولى أنها محاكمات في الفكر الديني وليس في الدين نفسه، لأن الدين إيمان وعمل صالح ، والحكم فيه لله تعالى يوم القيامة ، وليس لأحد غيره ، الثانية أنها محاكمات لتصفية حسابات سياسية ولتحقيق أهداف سياسية .
واشتهرت أوروبا العصور الوسطى بمحاكم التفتيش التي حملت لواءها الكنيسة ، وبدأت محاكم التفتيش فى تاريخ المسلمين في القرن الأول الهجري مع بداية الاستبداد والانحراف.
وأفلح الغرب حين أوقف سلطان الكنيسة وفضح مظالم محاكم التفتيش ، ولهذا تطور وتقدم بينما لاتزال محاكم التفتيش تمارس عملها فى بلاد المسلمين ، حيث توجد مئات النصوص القانونية السامة التي تعرقل الاجتهاد وترعب المفكرين و المثقفين والمبدعين ، وكلها تعمل لصالح الاستبداد و الفساد و الكهنوت الديني. لذلك يعيش الغرب الآن عصر ثورة المعلومات و حرية التفكير والتعبير، بينما مازلنا نعيش عصر (عذاب القبر ورضاعة الكبير و التداوي ببول الإبل والعلاج بالر قية الشرعية) ..
كيف بدأت محاكم التفتيش في تاريخ المسلمين ؟
إنها تستلزم تيارات سياسية ومذاهب دينية تحكم الدولة، والتيار الديني الحاكم هو الذي يقوم بمحاكمة خصومه وتكفيره والتخلص منه باسم الدين .. وهذه المعطيات استقرت في القرن الثاني الهجري خصوصاً في بداية العصر العباسي الذي شهد موجة من محاكم التفتيش تحت تحت مسمى مواجهة حركات الزندقة. ولكن قبلها كانت هناك محطات هامة نتوقف عندها ، في هذا المقال.
أخطر هذه المحطات هي النهاية الغامضة للصحابي سعد بن عبادة زعيم الأنصار . المقتول في بلدة حوارين بالشام . وقد كان سعد بن عبادة مرشح الأنصار للخلافة في بيعة السقيفة . ولكن انتهت الأحداث ببيعة أبي بكر ، ورفض سعد بن عبادة مبايعته ، وتولى عمر الخلافة ورفض سعد أيضاً مبايعته، وذكر المؤرخ ابن سعد في الطبقات الكبرى (3/ 145) جانبا من التهديدات التي واجهها سعد بن عبادة من بعض الصحابة المهاجرين إلى درجة أنه خاف على حياته في المدينة مسقط رأسه ، لذلك ترك أهله وهاجر إلى الشام ، وتكملة القصة نعرفها من المؤرخ البلاذري (أنساب الأشراف1/ 589) الذي يذكر مقتل سعد بن عبادة في حوارين بالشام لأنه صمم على رفض البيعة لأي قرشي ، وأشيع في عهد معاوية بن ابي سفيان الذي اخترع فقهاؤه حديث (الامامة في قريش حتى وإن بقي منها اثنان ) أن الجن هى التي قتلت سعداً ، وقالت في اغتياله شعراً .
هنا لا نجد محاكمة سياسية أو فكرية ، بل نرى مصلحة سياسية تحتم التخلص من زعيم الأنصار لتوطيد الخلافة القرشية ،هذا بالطبع إذا صدقنا تلك الروايات التراثية التي لا نجد روايات أخرى تنفيها أو تنقضها ، ولكنها البداية الأولى في التخلص من الخصوم السياسيين، بدون محاكمة سياسية ، أو محاكمة فكرية تكفيرية للتمويه على الغرض السياسي.
وقبل أن نترك هذه المحطة نذكر بعض ملحقاتها التي أسالت الدماء دون قتل النفس ، أنفس المعارضين السياسيين ، وذلك ما حدث لمعارضي سياسة الخليفة عثمان بن عفان فوقع فريسة للاضطهاد بعض السابقين فى الإسلام مثل عمار بن ياسر وعبدالله بن مسعود وأبى ذر الغفارى وذلك الاضطهاد لم تصحبه محاكمات سياسية أو فكرية .
الوالي الأموي زياد ابن ابيه والي معاوية على العراق كان أول من أقام محاكمة سياسية صورية للمعارضة السياسية ، وكان المتهم فيها حجر بن عدي وأصحابه، والسبب الحقيقي هو اعتراض حجر بن عدي وأصحابه على قيام الأمويين باجبار ائمة وخطباء المساجد على سب الإمام (علي بن ابي طالب) في كل خطبة جمعة على منابر المساجد، وكان والي الكوفة المغيرة بن شعبة يتسامح مع حجر بن عدي إذا اعترض عليه في المسجد حين يبدأ في سب الإمام (علي) . فلما تولى بعده زياد ابن أبيه لم يحتمل اعتراضه على سب الإمام علي فقام بإدخال فقرة في الخطبة- جرى تعميمها بعد ذلك على كل مساجد الدولة الأموموية- تنص على وجوب الاستماع وعدم الاعتراض بالكلام على خطيب الجمعة، وإن من تكلم فقد لغى ولا جمعة له، ثم قام الوالي زياد باعتقال حجر بن عدي وبعث به ورفاقه الى دمشق حيث أمر معاوية بقتلهم عام 41هجرية،ثم أمر بإقامة صلاة التهجد بعد أيام من مقتلهم ردا على صلاة من ركعتين كان حجر بن عديورفاقه قد أدوها لله في منتصف الليل، قبل أن تقطع سيوف القتلة رؤوسهم!!.
وكان حجر بن عدي ورفاقه أول ضحايا المحاكمات السياسية (الصورية) في تاريخ المسلمين ، وكان الوالي زياد ابن أبيه هو اول من بدأ هذه الوصمة ، وجاء بعده ابنه عبيد الله بن زياد والي الكوفة فكان يقتل خصومه السياسيين دون محاكمة صورية أو حقيقية ، وكان يمارس ذلك في سادية غريبة ، إذ يروى أن عروة بن حيدر التميمي جاء إليه في حلبة رهان على الخيل فوعظه فقرأ أمامه قوله تعالى " أتبنون بكل ريع آية تعبثون ، وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون ، وإذا بطشتم بطشتم جبارين" فاخذه عبيد الله بن زياد فقطع يديه ورجليه ، ثم قال له كيف ترى ؟ فقال له عروة : أرى أنك أفسدت دنياي وأفسدت آخرتك !! فقتله ثم أرسل إلى ابنته فقتلها أيضاً .
وعبيد الله بن زياد هذا هو الذي أرسل جيشاً لقتل الحسين بن علي وآله في كربلاء .. تلك المذبحة التي تشكل إحدى الكوارث الثلاث في خلافة يزيد بن معاوية.
كان استخلاف يزيد بعهد من أبيه اعلاناً صريحاً بتحول الخلافة من نظام الشورى إلى نظام ملكي استبدادي وراثي يحكم بالقوة والغلبة، وقد أدى ذلك التحول إلى ثورة الحسين ومصرعه في كربلاء ، فيما أدى مصرع الحسين بدوره إلى ثورة المدينة وخلعها طاعة يزيد ، وبالتالي قيام معركة الحرة بين أهل المدينة وجيش الأمويين ، وانتهاك حرمة المدينة المنورة بعد هزيمة أهلها ، وما حدث للمدينة أدى إلى الكارثة الثالثة وهي انتهاك حرمة الكعبة وقتال أهل مكة وزعيمها عبدالله بن الزبير الذي أعلن الخلافة ، وهذه الكوارث الثلاث حدثت بالترتيب خلال السنوات التي حكم فيها يزيد (60 64 ه) وقد أدت هذه الكوارث إلى خروج الحكم من الفرع السفياني الأموي وإعادة تأسيس الدولة الأموية على يد مروان بن الحكم وابنه عبدالملك بن مروان ، كما وصلت فيه القسوة الأموية إلى مداها في التعامل مع المخالفين في الرأى ، وبلغ الضحايا مئات الألوف ، وهذا المسرح الدامي جعل الدولة تواجه دعاية ضخمة من خصومها وضحاياها ، فاحتاجت إلى تبرير ديني يسوغ لها ما ترتكبه من مذابح ، وهنا بدأ التمهيد لاستغلال الفكر الديني في أغراض السياسة وذلك قبل اختراع حد الردة في العصر العباسي .
لقد استأثرت مأساة الحسين وآله في كربلاء باهتمام المؤرخين خصوصاً الشيعة ، حتى لقد غطت هذه المأساة على مأساة المدينة المنورة حين اقتحمها جيش الأمويين بقيادة مسلم بن عقبة في 26 ذي الحجة سنة 63 ه ، ويروي الزهري أن الجيش الأموي استباح المدينة المنورة ثلاث أيام بلياليها ، فقتل سبعة آلاف من الأشراف والصحابة وعشرة آلاف من بقية أهلها ، هذا بالإضافة إلى اغتصاب الحرائر من نسائها ، وذلك ما رددته كتب التاريخ كالطبري (4/ 372) وابن الأثير (3/ 10) ويقول المؤرخ ابن كثير أنه " حبلت ألف امرأة في تلك الأيام من غير زواج" تاريخ ابن كثير(8/ 372 ، 219).
وبعد مذبحة أهل المدينة توجه الجيش الأموي إلى مكة حيث حاصر الحرم المكي الشريف بالمجانيق التي تقذف بالنار فأحرقت الكعبة ، ولم ينقذ أهل مكة مؤقتاً إلا وصول الخبر بموت الخليفة يزيد بن معاوية واختلاف الأمويين على أنفسهم ، وبعد أن اتفقوا في مؤتمر الجابية على تولية مروان بن الحكم للخلافة أرسل الأمويون جيشاً آخر حاصر ابن الزبير وقتله سنة 73ه وكان قائد الأمويين هو الحجاج بن يوسف.
هذه القسوة المفرطة في سفك الدماء أوصلت الخلفاء الأمويين إلى غطرسة القوى التي تصادر الرأى السلمي ، وكان بعض الناس يجترئ على الخلفاء محتمياً بفضيلة الأمر بالتقوى فيقول للخليفة "اتق الله" وكان الخليفة ينصاع للقول حتى لاينطبق عليه قول الله تعالى " وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم، فحسبه جهنم ولبئس المهاد " ( البقرة 206) ، لكن الخليفة عبدالملك بن مروان استنكف أن يقال له " اتق الله" فأعلن في المدينة سنة 75ه ومن فوق منبر النبي تهديداً حاسماً لمن ينصحه بالتقوى، أوضح فيه أنه لايعرف إلا لغة السيف فقال، (( إني لن ُأداوي أمراض هذه الأمة بغير السيف .. والله لا يأمرني أحد بعد مقامي هذا بتقوى الله إلا ضربت عنقه )) .
أما ابنه الخليفة الوليد بن عبدالملك فقد خطب الجمعة وأطال في الخطبة حتى اصفرت الشمس فقام إليه رجل وقال له : إن الوقت لاينتظرك وإن الرب لا يعذرك"!! فقال له الوليد "صدقت ومن قال مثل مقالتك فلا ينبغي له أن يقوم من مقامك ." وفهم الحرس مقصد الخليفة فقتلوا الرجل.!!
وكان سعيد بن المسيب أكبر فقيه في العصر الأموي وشيخ التابعين في المدينة ، وقد أدرك مذبحة الحرة ونجا من القتل بمعجزة ، إذ ظل مختفياً في المسجد، وكانت تجربة فظيعة أثرت في شخصيته وفي آرائه الفقهية ورواياته الحديثية ، وبرغم نسبه القرشي ومكانته العلمية فقد صاحبه الاضطهاد الأموي ، وكانت حياته معلقة على كلمة ينطق بها الخليفة إذا أراد، هذا مع اعتزاله السياسة وأهل الدولة . وقد ذكر ابن سعد في تاريخه الطبقات الكبرى (5/ 94) كيف تعرض للضرب بالسياط ، وكيف كاد الخليفة الوليد أن يقتله لأنه استدعاه من المسجد فرفض المثول أمامه . وإذا كان هذا ما يحدث بشيخ قريش وأكبر علماء التابعين في زمنه فكيف بالآخرين.؟
في ذلك الوقت أي أثناء "خلافة عبدالملك وابنه الوليد" لقى مئات الألوف من المسلمين حتفهم على يد الحجاج بن يوسف ، الذي كان يقتل الأبرياء بمجرد التهمة والظن، وكان يستبيح قتل الأسرى المسلمين الخارجين عليه ، وأكثر ضحاياه كانوا من الأبرياء المسالمين المتهمين ظلماً ، بدليل أنه عندما مات الحجاج سنة 95ه وجدوا في سجونه ثلاثة وثلاثين ألف متهم بلا جريمة وكان السجين منهم يظل في السجن إلى أن يموت، وقد مات منهم في السجن خمسون ألف رجل وثلاثون ألف امرأة حيث كان يتم حبس الرجال والنساء في موضع واحد، ولم يكن السجن إلا مجرد مقبرة ، الداخل فيه لايخرج منه إلا جثة هامدة . ولأن دخول السجن والموت فيه أو الموت خارجه يحدث بسهولة لكل من يجرؤ على النقد لذلك احتبست الآراء والأفكار في الصدور ، وانزوى كل صاحب رأي وفكر في قعر بيته يخشى على حياته من إرهاب الحجاج والموت في سجونه الرهيبة .
لنأخذ مثلا على ذلك ما ذكره المؤرخ ابن سعد في الطبقات الكبرى في ترجمة فقيه الكوفة في عهد الحجاج ، وهو ابراهيم النخعي الذي عاش حياته في رعب من الحجاج حتى مات دون الخمسين سنة 96ه، بعد وفاة الحجاج ببضعة أشهر .
لقد أرسل الحجاج شرطياً للقبض على ابراهيم النخعي ، وكان عنده في البيت صديقه ابراهيم التميمي، وقرع الشرطي الباب وهو يقول : أريد ابراهيم ، فأسرع ابراهيم التميمي يقول للشرطي أنا ابراهيم ، وسار مع الشرطي للسجن وهو يعلم أن المقصود هو رفيقه ابراهيم النخعي، ولكن أراد أن يفدي بنفسه صديقه ، وظل ابراهيم التميمي في سجن الحجاج بدون محاكمة يقاسي العذاب ، وكان يعاني من ثقل السلاسل والجوع ، وحين جاءته أمه لتراه لم تستطع أن تتعرف عليه حتى خاطبها ، وظل في السجن إلى أن استراح بالموت .!! .
وأثرت تلك الحادثة على سلوك الفقيه العبقري الشاب ابراهيم النخعي فسيطر عليه الرعب من الحجاج واستخفى في بيت صديقه أبي معشر تطارده مخاوفه ووساوسه من زبانية الأمويين . وحين اعتقد أن الحجاج قد تناساه ظهر وأخذ يقرئ دروسه في مسجد الكوفة إلا أن حذره لم يفارقه ، وقد قال له بعض أصدقائه يحذره من دخول المسجد " أتذهب إلى المسجد فيجلس إليك العريف والشرطي ؟" . فقال له النخعي " بل نجلس في المسجد فيجلس إلينا العريف والشرطي أحب من أن نعتزل فيرمينا الناس بالتهمة " أي كان يخاف من الانزواء ويخاف أيضا من اظهار آرائه. ولم يتخلص النخعي من الرعب إلا حين بشروه بموت الحجاج ، فسجد لله شكراً وبكى من الفرح.!!.
لم يكن الصحابة وذرية (علي) وأهل مكة والمدينة فقط من ضحايا الأمويين ، بل انضم إليهم الأقباط والموالي في مصر والعراق وفارس، ولم تقتصر مظالم الأمويين على سفك الدماء بل شملت اضطهاد غير العرب وأكل أموالهم . ومن الطبيعي أن تتعاظم النقمة عليهم من خصومهم الكثيرين ، خصوصاً الشيعة والخوارج ، وقد تزعموا المقاومة العلنية والسرية ، وتحصنوا بمقولات دينية ، وكان لابد للأمويين أن يردوا عليهم بثقافة دينية مضادة.
في ذلك الوقت كانت الحركة الفكرية بسيطة وساذجة وأكثرها لم يعرف التدوين المنظم ، لذلك قبعت تلك المعارك الفكرية بين سطور التاريخ وعلى هامش المعارك الحربية بين الأمويين وأعدائهم حيث حجبها عن الأنظار ضجيج الصدام الحربي .
مما له دلالة أن تلك المعارك الفكرية بين الأمويين وخصومهم دارت حول قضية أساسية وبسيطة ، هى الجبر والاختيار ، والقضاء والقدر ، تلك المشكلة الفكرية التي تلازم الفكر الانساني في كل العصور، والتي يجد فيها الظالم تبريراً مناسباً لظلمه .. وكذلك فعل الأمويون، إذ قامت دعايتهم على أساس أن الله تعالى هو الذي شاء في (( اللوح المكتوب )) أن يموت الحسين وآله قتلى في كربلاء ، وأن الله تعالى هو الذي شاء أن يقتل أهل المدينة في موقعة الحرة، وأن مشيئته تعالى اقتضت أن تنتهك حرمة البيت الحرام ، وأن الاعتراض على ذلك إنما هو اعتراض مشيئة الرحمن وخروج على إرادته ، ومعناه أنه يحدث في ملك الله تعالى ما لايشاء وقوعه ، ومن يعتقد أن هناك ما يخرج عن قدر الله ومشيئته فقد خرج عن الإسلام واستحق القتل.
وبدأت هذه الدعاية الأموية مبكراً وبعد كوارث قتل الحسين وانتهاك حرمة المدينة وحرمة البيت الحرام، وبدأت أيضاً مقاومة هذه الدعاية الأموية في حينها، وإن كنا لا نعرف الكثير عن هذا الصراع الفكري إلا من خلال ما نتج عنه من آثار خطيرة كادت تودي بالدولة الأموية بعد موت الخليفة يزيد بن معاوية .
ذلك أن عمرو المقصوص كان معلماً لمعاوية بن يزيد بن معاوية ولي العهد ، وقد تأثر هذا الشاب (معاوية بن يزيد) بشخصية عمرو المقصوص وأفكاره عن الحرية والمسؤولية ، وبالذات مسؤولية الانسان عما يفعله . وبالتالي مسئولية الأمويين عن أعمالهم، وقد استطاع عمرو المقصوص أن يصل بتأثيره على معاوية بن يزيد بن معاوية إلى درجة أنه اعتزل الخلافة بعد شهرين من موت والده يزيد ، وقال في خطاب اعتزاله ما يؤكد مسؤولية أبيه يزيد وجده معاوية عن الفظائع التي حاقت بالمسلمين، ويذكر المقدسي صاحب كتاب "البدء والتاريخ "(6/17) أن عمراً المقصوص هو الذي نصح الخليفة الشاب قائلاً :"إما أن تعتدل وإما أن تعتزل" ولما تيقن الخليفة الجديد من عجزه عن الاصلاح بادر بالاعتزال بعد أن أعلن رأيه في مسئولية أبيه وجده عما حدث لخصومه السياسيين، ولم يتمسح مثل أهله بالقدر الإلهي . وأدى هذا الموقف إلى أن قام الأمويون بقتل الخليفة المعتزل معاوية بن يزيد ، ثم طاردوا عمراً المقصوص حتى عثروا عليه فدفنوه حياً وقالوا له : "أنت أفسدته وعلمته" .!!
وهذه هي النهاية المفجعة لعمرو المقصوص داعية الإرادة الحرة ضد مذهب الجبرية للدولة الأموية ، وقد أثرت على داعية آخر مشهور وهو الحسن البصري (22 110 ه) الذي كان يؤمن بالإرادة الحرة ، ولكنه كان يخشى من الجبروت الأموي خصوصاً وهو يعيش إلى جوار الحجاج ابن يوسف بوصفه سفاح بني أمية. والحسن البصري كفقيه واعظ أدرك المساوئ الخلقية التي أدى إليها مذهب الجبرية فى الانحلال الخلقي لأهل البصرة والكوفة ، إذ رأى بعضهم في التمسح بالمشيئة الإلهية والجبرية رخصة في ممارسة الفجور ، لذلك كان الحسن البصري يتشجع أحياناً فيعلن مسئولية الانسان عن أعماله ويحذر من نسبة الشر إلى الله تعالى ويستدل بقوله تعالى " ولايرضى لعباده الكفر" إلا ان الحسن البصري كان يغلف آراءه بالوعظ الخلقي للناس ، ويحذر من التصريح بالانكار السياسي على الأمويين.
ولكن فقيها جريئاً نهض لما تقاعس عنه الحسن البصري ، وهو معبد بن خالد الجهني الذي أعلن كلمته المأثورة " لا قدر، والأمر أنف" .. فقد أشاع الأمويون ودعاتهم في المساجد أن معاصيهم وأعمالهم " تسير بقدر الله" فأعلن معبد أنه "لاقدر" أي لا دخل لقدر الله بهذه المعاصي ، وان أمور الأمويين تجري بالظلم والاكراه برغم أنوف المسلمين ، أي " والأمر أنف" .
وانتقل معبد إلى البصرة وقابل شيخها الحسن البصري وقال له : " يا أبا سعيد ، هؤلاء الملوك يسفكون دماء المؤمنين ويأخذون اموالهم ويقولون إنما تجري أعمالنا على قدر الله." فتشجع الحسن البصري وقال مؤيداً له : كذب أعداء الله.
وكي يثبت معبد رأيه في الإرادة الحرة فقد شارك مع المثقفين أو(القراء) في ثورة محمد بن الأشعث، وفشلت ثورة ابن الأشعث ، وانهزم في موقعة دير الجماجم ، وأسرف الحجاج في قتل الأسرى، واستبقى منهم معبد بن خالد ليتلذذ بتعذيبه والسخرية من آرائه ، إذ كان يؤتى به إليه مقيداً بعد وجبة التعذيب، فيضحك الحجاج ويقول له: يا معبد ، كيف ترى ما قدره الله لك؟ ما تقول في ما قسم الله لك ؟ فيقول له معبد : "يا حجاج خلِّ بيني وبين قسم الله وقدره، فإن لم يكن لي قدر إلا هذا القيد رضيت به" أي أن إرادة الحجاج هى التي جعلته في القيود وليست إرادة الله .
وفي مرة أخرى قال له : يا معبد ، أليس قيدك بقضاء الله ؟ فقال له معبد: "يا حجاج، ما رأيت أحداً قيدني غيرك فاطلق قيدي فإن أدخله قضاء الله رضيت به". ولما عجز الحجاج عن الرد عليه أمر بتعذيبه حتى الموت ، فظل تحت العذاب إلى أن مات سنة 83 ه .
وكالعادة أدى عنف الدولة إلى انتشار مذهب معبد الجهني بعد مقتله ، فتكاثر أصحاب مذهب "القدرية" نسبة لقول معبد " لاقدر والأمر أنف " وظهر زعيم آخر لهم داخل دمشق نفسها هو غيلان الدمشقى الذي استفاد من الحكم العادل للخليفة عمر بن عبدالعزيز ، وكانت لهما مناقشات في موضوع حرية الإرادة والقضاء والقدر، وساند غيلان الخليفة عمر بن عبدالعزيز في رد المظالم ، وكان يقف في سوق دمشق يبيع ما يصادره عمر بن عبدالعزيز من أموال وخزائن وأثاث نهبها الأمويون ، كان يبيعها لصالح بيت المال ، وهو ينادي في الناس "تعالوا إلى متاع الخونة، تعالوا إلى متاع الظلمة ، تعالوا إلى متاع ما خلف الرسول في أمته بغير سنته وسيرته" وقد مر هشام بن عبدالملك به وهو ينادي هذا النداء وسمع ما يسوؤه فنذر إن تولى الخلافة ليقطعن يدي غيلان ورجليه .
وعندما تولى هشام الخلافة هرب غيلان وصاحبه صالح إلى أرمينيا ، ودعا إلى الثورة على هشام وظلمه ، فاعتقله أعوان الأمويين، وجيء به إلى هشام بدمشق ، فقال له هشام : "زعمت أن ما في الدنيا ليس هو عطاء من الله لنا " فقال غيلان:"أعوذ بجلال الله أن يأتمن الخونة أو أن يستخلف الفجار خلفاء" أن هشام يعتقد أن استيلاءه على الملك والأموال إنما هو بقدر الله وعطائه ، أما غيلان فيرى أنه حاش لله أن يجعل الخونة أمناء له أو يجعل الفجار خلفاءه ، وإنما هي السطوة والقهر وإرادة البشر بالرضى بالظلم والخنوع له أو بالتخلص منه .
وأراد هشام أن يفعل بغيلان مثلما كان يفعل الحجاج بمعبد الجهني ، إذ أمر بحبسه ليتسلى بحبسه ، ثم يقتله في النهاية بعد أن يسلط عليه أحد فقهاء الدولة ليرد عليه بفكر ديني مضاد . وكان الأمام الأوزاعي هو ذلك الفقيه الذي يتكلم باسم الأمويين ، وقد تناقش مع غيلان في السجن ، ولم يستمر النقاش طويلاً ، إذ سرعان ما أفتى الأوزاعي للخليفة بتعذيب غيلان وقتله هو وصاحبه صالح. فأمر هشام باخراجهما من السجن وقطع أيديهما وأرجلهما وجيء بهما إليه ليشفي غليله ، فقال لغيلان :" كيف ترى ما صنع بك ربك ؟!!" يعني أن قضاء الله هو المسؤول عما حلَ به ، فقال له غيلان:" لعن الله من فعل هذا بي !!" يعني لعن الخليفة لأنه المسؤول عما حدث وليس الله تعالى!!.
وأراد هشام أن يستبقيه في السجن حياً ليكون عبرة للناس ، بينما يجلس الأوزاعي في المسجد الأموي يقص الأحاديث التي تلعن القدرية وتحكم بقتلهم ، وكان النتيجة أن أصبح الناس يتوافدون على غيلان الدمشقي في السجن يستمعون إليه ، وكان فصيحاً مفوهاً صاحب تأثير هائل في الناس ، فأخذ يعظ الناس ويهاجم الأمويين ، فانقلبت الآية على هشام ، فقيل له :" قطعت يدي غيلان ورجليه وأطلقت لسانه فأبكى الناس ونبههم إلى ما كانوا عنه غافلين." فأسرع هشام فأرسل إليه من يقطع لسانه ، فقيل له :" أخرج لسانك." فقال :" كلا، لا أعينكم على نفسي" فكسروا فكيه واستخرجوا لسانه فقطعوه .. فمات .. رحمه الله تعالى!! (التفاصيل في كتاب القاضي عبدالجبار:طبقات المعتزلة 330: 334).
وقد انتشر مذهب غيلان في الحرية والثورة ضد الظًلمة ودحض مقولتهم في التمسح بالمشيئة الإلهية وأصبح هذا خطراً على الدولة العباسية التي دمرت الدولة الأموية ، ومن عجائب التاريخ أن الوالي العباسي عبدالله بن علي الذي هزم الأمويين في موقعة الزاب والذي أبادهم في الشام استخرج جثة الخليفة الأموي هشام وضربها بالسياط ثم أحرقها ونثرها في الهواء ، ومع ذلك فإن ذلك الوالي العباسى نفسه هو الذي احتفى بالإمام الأوزاعي حين سارع الأوزاعي بتقديم خدماته للدولة الجديدة وتنكر لسادته الأمويين، فأفتى للعباسيين بشرعية قتل الأمويين ونهب أموالهم.
ومن العجائب أيضاً أن الأوزاعي ظل متمتعاً بالجاه في الدولة الجديدة ، يروي لها الأحاديث ويصنع لها الفتاوي التي تلعن " القدرية " أي مذهب الحرية الفردية ومسئولية الحاكم عن ظلمه .. ولهذا انتشرت الأحاديث المصنوعة التي تلعن غيلان الدمشقي ، ومنها حديث : " يكون في أمتي رجلان أحدهما وهب الله له الحكمة، والآخر "غيلان" فتنة على هذه الأمة أشد من فتنة الشيطان" وقد أورد الملطي هذا الحديث في كتابه "التنبيه والرد" .
وهو حديث عجيب ، إذ يمدح اليهودي وهب بن منبه أكبر مصدر للإسرائيليات في تراث المسلمين ويذم غيلان الدمشقي أكبر داعية للحرية الفكرية والسياسية في تراث المسلمين .
والسبب واضح ، إن تركيع الناس للاستبداد الديني والسياسي يبدأ بتعليب العقل وتحييده عن طريق الفكر الديني الذي يسلب الدين أعظم ما فيه وهو التعقل والتبصر والتفكر .
وهكذا فعل الأمويون والعباسيون مع دعاة التفكير العقلي.. وهكذا تفعل الوهابية فى عصرنا الراهن.. ويبقى السؤال: هل هذا التاريخ الماضي اندثر أم تم إحياؤه بعد 13 قرنا في عصرنا عصر حقوق الانسان والحرية والديمقراطية؟.
ما من شك في أننا نخوض اليوم كفاحا شاقا من أجل الدفاع عن الحريات وحقوق الانسان ومكافحة الارهاب بكل اشكاله وصوره ومنابعه ، وفي تقديري ان هذا الكفاح العادل لا يمكن أن يصل الى أهدافه بدون مكافحة الوهابية وتجفيف منابعها التى استرجعت أحطّ فكر اخترعه الانسان وجعلته مذهبا دينيا تحارب به الحرية و العدل والاحسان والسلام ثم تنسبه الى الاسلام زورا وظلما وعدوانا .
نعم .. من واجبنا مكافحة الوهابية التى جعلت الاسلام متهما بالتطرف و الارهاب والتخلف والتزمت..
ألا لعنة الله على القوم الظالمين.
* عالم أزهري رئيس المركز العالمي للقرآن الكريم


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.