الحكومة تطالب دول العالم أن تحذو حذو أستراليا بإدراج الحوثيين على قائمة الإرهاب    "غضب قبلي يضرم نيران التوتر في عتق بعد اختطاف نجل شيخ بارز!"    وزارة الحج والعمرة: إيقاف تصاريح العمرة ومنع دخول مكة لحاملي تأشيرات الزيارة    معجزة في المحويت: ثعبان يهدد حياة شابين... أحدهما ينجو بفضل شجاعة أخيه!    مسلح مجهول يُحرق امرأة ويقتل زوجها في محافظة حجة!    جريمة ضد الفطرة تهز محافظة تعز    - بالصور لقاء حماس وحزب الله وانصارالله في ايران كمحور مقاومة فمن يمثلهم وماذا دار؟    الهلال الأحمر اليمني يُساهم في توفير المياه الصالحة للشرب لمنطقة عبر لسلوم بتبن بدعم من اللجنة الدولية ICRC    إقالة تشافي والتعاقد مع فليك.. كواليس غضب لابورتا من قائد برشلونة السابق    "القسام" تواصل عملياتها برفح وجباليا وجيش الاحتلال يعترف بخسائر جديدة    بعثة المنتخب الوطني الأول تحتفي بالعيد ال 34 للوحدة اليمنية    مصادر: مليشيات الحوثي تتلاعب بنتائج طلاب جامعة إب وتمنح الدرجات العالية للعناصر التابعة لها    سنتكوم تعلن تدمير أربع مسيّرات في مناطق سيطرة الحوثيين مميز    نايف البكري يدشن صرف البطاقة الشخصية الذكية لموظفي وزارة الشباب والرياضة    إعلان إماراتي بشأن اليمن عقب لقاء جمع مقرب من ''محمد بن زايد'' بمسؤول أمريكي كبير    ماذا قال السامعي و الكبوس والكميم ووزير الشباب    المحكمة حسمت أمرها.. حكم بتنفيذ عقوبة ''القذف'' ضد فنانة مصرية شهيرة    رحيل لابورتا الحل الأنسب لبرشلونة حاليًا    ليفاندوفسكي يفشل في إنعاش خزائن بايرن ميونيخ    نادي جديد ينضم لسباق التعاقد مع اراوخو    الجيش الوطني يعلن إسقاط مسيّرة تابعة للمليشيات الإرهابية بمحافظة الجوف    وزير الأوقاف يحذر ميليشيا الحوثي الارهابية من تسييس الحج والسطو على أموال الحجاج    منع إقامة عرس جماعي في عمران لمخالفته تعليمات حوثية    - عاجل بنك اليمن الدولي سيرفع قضايا ضد عدد من الاشخاص ويكشف عن أصوله وراس ماله الحقيقي ويمتلك 1.5 مليار دولار موجودات و46مليار رأس مال كأكبر بنك يمني    الحوثيون يقيلوا موظفي المنافذ ويجرونهم للسجون بعد رفضهم السماح بدخول المبيدات المحظورة    منجز عظيم خانه الكثير    الهلال يُشارك جمهوره فرحة التتويج بلقب الدوري في احتفالية استثنائية!    اتالانتا بطلا الدوري الاوروبي لكرة القدم عقب تخطي ليفركوزن    سبب انزعاجا للانتقالي ...الكشف عن سر ظهور الرئيس علي ناصر محمد في ذكرى الوحدة    الكشف عن القيادي الحوثي المسؤول عن إغراق السوق اليمني بالمبيدات المحظورة    بمناسبة يوم الوحدة المغدور بها... كلمة لا بد منها    السفارة اليمنية في الأردن تحتفل بعيد الوحدة    محاولا اغتصابها...مشرف حوثي يعتدي على امرأة ويشعل غضب تعز    قيادي انتقالي: تجربة الوحدة بين الجنوب واليمن نكبة حقيقية لشعب الجنوب    شاب سعودي طلب من عامل يمني تقليد محمد عبده وكاظم.. وحينما سمع صوته وأداءه كانت الصدمة! (فيديو)    سموم الحوثيين تقتل براءة الطفولة: 200 طفل ضحايا تشوه خلقي    تغاريد حرة .. الفساد لا يمزح    للوحدويين.. صنعاء صارت كهنوتية    الهجري يتلقى التعازي في وفاة والده من محافظي محافظات    اليابان تسجل عجزاً تجارياً بلغ 3 مليارات دولار    ورحل نجم آخر من أسرة شيخنا العمراني    مفاتيح الجنان: أسرار استجابة الدعاء من هدي النبي الكريم    بطل صغير في عدن: طفل يضرب درسًا في الأمانة ويُكرم من قِبل مدير الأمن!    ما بين تهامة وحضرموت ومسمى الساحل الغربي والشرقي    إحصائية حكومية: 12 حالة وفاة ونحو 1000 إصابة بالكوليرا في تعز خلال أشهر    هل يمكن لبن مبارك ان يحدث انفراجة بملف الكهرباء بعدن؟!    أين نصيب عدن من 48 مليار دولار قيمة انتاج الملح في العالم    وهم القوة وسراب البقاء    "وثيقة" تكشف عن استخدام مركز الاورام جهاز المعجل الخطي فى المعالجة الإشعاعية بشكل مخالف وتحذر من تاثير ذلك على المرضى    وفاة طفلة نتيجة خطأ طبي خلال عملية استئصال اللوزتين    شاب يبدع في تقديم شاهي البخاري الحضرمي في سيئون    اليونسكو تزور مدينة تريم ومؤسسة الرناد تستضيفهم في جولة تاريخية وثقافية مثمرة    دعاء يريح الأعصاب.. ردده يطمئن بالك ويُشرح صدرك    بعضها تزرع في اليمن...الكشف عن 5 أعشاب تنشط الدورة الدموية وتمنع تجلط الدم    توقيع اتفاقية بشأن تفويج الحجاج اليمنيين إلى السعودية عبر مطار صنعاء ومحافظات أخرى    اليونسكو تطلق دعوة لجمع البيانات بشأن الممتلكات الثقافية اليمنية المنهوبة والمهربة الى الخارج مميز    لماذا منعت مسرحيات الكاتب المصري الشرقاوي "الحسين ثائرآ"    في افتتاح مسجد السيدة زينب.. السيسي: أهل بيت الرسول وجدوا الأمن والأمان بمصر(صور)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لقطات من ذاكرة عمرها 40 عاماً عن مهرجان أبي تمام الشعري
نشر في نشوان نيوز يوم 10 - 06 - 2010

في كانون الأول من عام 1971 أقيم في الموصل المهرجان العربي الكبير، مهرجان أبي تمام الشعري، وكانت مجموعتي الشعرية الأولي (اعترافات المتهم الغائب) قد صدرت في ذلك العام وأنا بعد في الخامسة والعشرين من عمري، وفي الشهر نفسه من العام نفسه، كنت أنتظر أن تنشر لي مجلةُ الآداب البيروتية، في عددها الثاني عشر، ردا علي ما نشرَتْه من نقد للأستاذ الشاعر بلند الحيدري، في باب (قرأت قصائد العدد الماضي) في عددها الحادي عشر، تناول فيه قصيدتي (أهل الكهف) التي كانت قد نشرَتها في عددها العاشر.. وكنت أدري أن الحيدري من المدعوين للمشاركة في مهرجان أبي تمام، وعدد مجلة الآداب لم يكن قد وصل العراق بعد.
ومما أتذكّره من طرائفِ ذلك المهرجان، أن البردوني لم يتخلَّ عن معطفه وهو قي البصرة، مع أن الجوَّ فيها، في مطلع شهر تشرين الثاني لم يكن باردا إلي حدٍّ يستدعي ارتداء المعاطف، كما أن الشاعر العراقي نعمان ماهر الكنعاني، لم يتخلَّ هو الآخَر عن حَملِ العصا، مع أنه كان قويَّ البنية منتصب القامة لا يحتاج أن يتوكأ عليها، مما دعا أحد الصحفيين الظرفاء أن ينشر في جريدة المهرجان تعليقا ظريفا حول معطف البردوني وعصا الكنعاني، يقول عن المعطف (لم نعرف إلي الآن من كان وراء إقناع البردوني بأن الشتاء قد نزل عندنا.. لكننا نعرف أن معطفه الذي يحمله حيثما سار، أصبح من أبرز معالم المربد). وعن العصا يقول (أضيفت عصا الشاعر نعمان ماهر الكنعاني لمأثورات المربد الخامس فهو يحملها حيثما حل.. سألناه: أهي علامة الكِبَر؟ فقال: بل هو تقليد مربدي).
وفي حوار مع البردوني، نُشر في جريدة المهرجان نفسها، تحدث عن مشاركته في مهرجان أبي تمام قائلا: هي أول مرة اٌقرأ فيها علي منبرٍ عالٍ وبين أيدي جمهور الموصل لحساسيته الفنية وثقافته المعروفة.. وسميت القصيدة التي قرأتُها ب (قصيدة الضجّة).
ما أجمل لقاء لي مع البردوني، فقد كان في مدينة صنعاء عام 1989 ضمن الأسبوع الثقافي العراقي الثاني في اليمن.
ففي صباحيَّةٍ شعرية حاشدة أقيمتْ في جامعة صنعاء للشعراء العراقيين المشاركين في ذلك الأسبوع، وهم كلٌّ مِن (نعمان ماهر الكنعاني، عبد الرزاق عبد الواحد، معد الجبوري، محمد حسين آل ياسين، علي الياسري، جواد الحطاب.) كان الشاعر عبد الله البردوني، والشاعر الدكتور عبد العزيز المقالح رئيس جامعة صنعاء، والسيد حسن اللوزي وزير الإعلام والثقافة اليمني، وحشد من الأساتذة والطلبة، في مدخل قاعة الجامعة لاستقبالنا والترحيب بنا، وكان من المقرر أن يقوم البردوني بتقديمنا للجمهور عند إلقاء قصائدنا.
وحين تقدم منا للترحيب بنا، قلتُ له وأنا أصافحه: إنني من مدينة الموصل، فتذكَّر وضمني قائلا: (أهلاً بابن الموصل المدينة الأصيلة الجميلة التي لن أنساها ما حييت، ولن أنسي تذوق أبنائها العالي للشعر، ففيها عُرفتُ كصوتٍٍ شعري، وأخذ اسمي ينتشر في الساحة العربية.).
وعلي خشبة المسرح قرب المنبر بمواجهة جمهور القاعة، توسَّطَ الشاعر عبد الله البردوني جلستَنا خلف طاولة طويلة، ثم قَدّمَنا واحدا واحدا للجمهور، ولم يفُتْهُ أن يذكرَ ضمن تقديمي أنني من مدينة الموصل، وأخذ يُعقِّبُ علي كلِّ قصيدةٍ بعد إلقائها، بعباراتٍ موجزة دقيقة.
قلبي علي وطني
ا أن علمنا أن الشاعر السوداني محمد مفتاح الفيتوري، سيشارك في مهرجان أبي تمام، حتي عادت بنا الذاكرة إلي قصيدته الشهيرة التي حفظناها وتعاطفنا معها ونحن بعد علي مقاعد الدراسة المتوسطة:
يا أخي في الشرق في كلِّ سكَنْ
يا أخي في الأرض في كل وطنْ
أنا أدعوك ، فهل تعرفني
يا أخاً أعرفهُ ، رغم المِحَنْ
في صالة فندق الإدارة المحلية بالموصل تعرفنا عليه، نحن الأدباء الشباب، قبل افتتاح المهرجان، فأصغي إلينا بمحبة وتواضع، معرباً عن اهتمامه بالشعر الجديد الخارج علي القوالب التقليدية الكلاسيكية الجامدة، وفي حوارنا معه اتفق معنا علي بعض آرائنا واختلف مع بعض الآراء المتطرفة سواء ما يتعلق منها بالمحاولات الجديدة أو القصيدة العمودية، وكانت له وجهات نظره النقدية الخاصة.
وفي الأمسية الشعرية الأولي، ألقي الفيتوري قصيدته، فبدأ بوقفةِ صمتٍ، ثمَّ أغمض عينيه في تأمّل واسترسل في شبه غناء:
حين يأخذُكَ الصمتُ مِنّا
فتبدو بعيدا كأنكَ رايةُ قافلَة غرقَتْ في الرِّمالْ
عشبُ الكلماتُ القديمةُ فينا
وتشهقُ نارُ القرابين، فوقَ رؤوسِ الجبالْ
عندها صفق الجمهور بحماس، فقد فوجَئَ بحضور جذَّاب علي المنبر، وبشاعرٍ لديه طريقةٌ نادرة في الإلقاء، فأداؤهُ أداءُ ممثّلٍ بارع بحركات يديه ونظراته، وبما يُضْفِيه من تلوينٍ علي نبرات صوته، متنقلاً بشكل خاطف بين السرعةٍ والإبطاءِ، والجَهْرٍ والهمس، في تناغم بين موسيقي النص وموسيقي الأداء، مع وقفاتِ صمتٍ عميق لها إيقاعُها الخاص، عبرَ غنائيةٍ عالية تنبضُ في ثنايا نصِّه الشعري.
أكثر من مرة، قاطع الجمهورُ الذي كان يملأ قاعة الإدارة المحلية (الربيع) الشاعر الفيتوري بالتصفيق حتي وصل إلي مقطع، تلاه بحسم ونبرة عالية:
لماذا يظنُّ الطغاةُ الصغار، وتشحبُ ألوانُهُمْ،
أنَّ موتَ المناضلِ موتُ القضيّة،
أعلم سِرَّ احتكام الطغاةِ إلي البندقية،
لا خائفاً.. إنَّ صوتيَ مشنقةٌ للطغاةِ جميعاً
ولا نادما.. إنَّ روحيَ مثقَلةٌ بالغضَبْ.
كلُّ طاغيةٍ صَنَمٌ، دُمْيَةٌ مِنْ خشَبْ.
فضجَّت القاعة، بالتصفيق وصياح (أعِدْ)، فأعاد، ثم واصل والمتلقّون منسجمون مع إلقائه، ليصل إلي هذه الصورة الشعرية:
لا تحفروا ليَ قبرا، سأصعد مشنقتي،
وسأغلق نافذة العصر خلفي،
وأغسل بالدم رأسي،
وأقطع كفي، وأطبعها نجمة فوق واجهة العصر،
فوق حوائط تاريخه المائلَهْ..
وسأبذر قمحي للطير والسابله..
ثم اختتمَ قصيدته بهذا المقطع، الذي توالي التصفيق بعده للشاعر، وهو يغادر المسرح وينحني للجمهور:
قتلوني، وأنكرني قاتلي،
وهو يلتف بردان في كفني.
وأنا مَنْ ؟.. سوي رجلٍ واقفٍ خارج الزمَنِ.
كلَّما زيفوا بطلاً،
قلتُ: قلبي علي وطني
بعد انتهاء الأمسية، وعند الحديث عن إلقاء الفيتوري، قيل: إنَّ (آسيا) زوجتَهُ، وهي ممثلة، تُدرِّبُه علي الإلقاء، فيُجري التمارين أمام المرآة قبل أن يقف وراء المِنَصّة، وسواء كان ذلك صحيحا أو أنه محضُ افتراء، فقد ظل الفيتوري فيما بعد في العديد من المهرجانات التي سمعتُه ورأيتُه فيها، بارعا في الإلقاء.
وهنا أري أنَّ ما ينطوي عليه أيُّ نص شعري من عناية بالإيصال إلي شرائح المتلقين شتي وليس إلي النخبة فقط، وبإلقاءٍ هو جزء من تلك العناية، هو الذي يقف وراء استقطاب جمهور القاعات والمناسبات، وهذا ما ينطبق علي قصيدة الفيتوري، وعلي قصيدة الشاعر نزار قباني، التي ألقاها قي الأمسية نفسها، والتي ألهبت حماس الجمهور، في وقتٍ لم تستقطب فيه نصوصٌ ألقيت قي المهرجان نفسه ولها ثقلها الفني، سوي النخبة وهم القلة من الجمهور.. نذكر منها، علي سبيل المثال، قصيدة الشاعر المصري الرائد محمود حسن اسماعيل (سجدة علي قبر أبي تمام) وقصيدتَي الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي (السَّفَر، ومرثية للعمر الجميل) وقصيدة الشاعر محمد عفيفي مطر (وشم النهر علي خرائط الجسد).. وقد تناول تلك النصوص المتفوّقة المجددة فيما بعد، العديد من النقاد والدارسين باهتمام بالغ.
والفيتوري في مهرجان أبي تمام كان حريصا علي حضور أمسيات الشعر التي كانت تنقلها محطة تلفزيون الموصل نقلا حياًّ، ومنها الأمسية التي كانت مخصصة للشعراء من أبناء الموصل، ومنهم: (ذنون الشهاب، أرشد توفيق، سالم الخباز، معد الجبوري، أمجد محمد سعيد،عبد الوهاب اسماعيل، بشري البستاني، عبد المحسن عقراوي، محمد علي الياس العدواني، عبد الوهاب شاهين، وعد الله ابراهيم..) وقدمها القاص والإعلامي سعد البزاز.
ظل الفيتوري حتي نهاية الأمسية يصغي بانتباه إلي قصائد الشعراء، وبعد انتهائها جمعتنا في الصالة جلسة معه ومع الباحث والناقد اللبناني محمد عيتاني أحد ضيوف المهرجان، والذي كان قد خاض في ذلك العام معركة نقدية مع الناقد المصري محمد النويهي علي صفحات مجلة الآداب البيروتية استغرقت العام كله، وكانت، وهي معركة حامية، قِمَّة في الحوار المهذَّب ومدعاة لتعزيز شهرتهما.
في تلك الجلسة أثني كلٌّ من الفيتوري وعيتاني، علي ما ألقي من قصائد حديثة في الأمسية، وفيما يتعلق بقصيدتي، فقد وعدني الناقد محمد عيتاني بالكتابة عنها، ثم وفي بوعده فنشر عنها قراءة نقدية في مجلة الطريق اللبنانية، أما الشاعر محمد مفتاح الفيتوري، فقد بدا، من خلال حوارنا، أن مقطعاً من قصيدتي لفت انتباهه بشكل خاص أكثر من المقاطع الأخري، أقول فيه:
كلما صار قلبي مُصلّي
وصارَتْ ذِراعي مَنارَهْ
تُصبحُ الأرضُ مبغي
فأختار ثوبَ الدَّعارَهْ
أمّا كون بعض شعراء تلك الأمسية كانوا قد أطالوا من وقوفهم خلف المنصة ولم يلتفتوا إلي عدم انسجام الجمهور مع قصائدهم، وهذا ما أشار إليه الفيتوري وعيتاني وغيرهما من الأدباء العرب والعراقيين، فقد كان من بعض أسبابه، تدخل إداريين غير معنيين بالإبداع بإضافة عدد من الأسماء إلي أصل قائمة المقرر مشاركتهم من شعراء الموصل، فانتهز الفرصة مَن اعتبر أنّ المشاركة في مثل هذا المهرجان فرصة نادرة له، فقرأ خلالها ما شاء من مطولات (شعرية) برتابة، دون مراعاة للوقت، ودون أيِّ إحساس بما أصاب الجمهور من ملل ، وما حلَّ في القاعة من نفور.. ولقد كان لهذا الأمر، تأثيره السلبي علي تلقي القصائد الجميلة والجديدة التي ألقيت في الأمسية.
محمد عفيفي مطر
وأدباء الموصل
ظلَّلَتني مِن جَناحيها سحابهْ
وصلتني بالدمِ الهاربِ مِن شقٍّ لشّقٍّ،
وضعتني في الرّبابهْ
وترا ممتلئََ الصوتِ، بكنزِ الصَّرَخاتْ
وأنا فزَّاعَةُ الطير بأرضِ الغُرباءْ
كنت في قلبِ العراءْ
مستحماًّ بعراك الطيرِ في الرّيح،
ومَحشواًّ بأوراقِ التقاويم الجسَدْ
هذا ما علق في الذاكرة من قصيدة الشاعر محمد عفيفي مطر (وشم النهر علي خرائط الجسد) التي ألقاها في إحدي أمسيات مهرجان أبي تمام. وصلتي بالشاعر مطر تمتد، من خلال قراءتي لنتاجه الشعري، إلي النصف الثاني من ستينات القرن الماضي، ولم أكن قد التقيت به شخصيا، و لم أعلم ، وضيوف المهرجان كانوا قد حلوا في الموصل أنه سيكون واحدا منهم.
كان محمد عفيفي مطر قد شدَّني إلي شعره بقوة دون الكثير من الشعراء الذين كنت أقرأ لهم، ومنذ عام 1970 أيام بدأتُ أنشر علي صفحات مجلة الآداب التي كان ينشر فيها، ازداد إعجابي به كصوتٍ متفرّد، كان له صدي عميق في نفسي، فهو صوت الرؤيا العميقة والمغايرة والاختلاف والبصمة الخاصة، حتي في عناوين قصائده المثيرة، مثل(شهادة البكاء في زمن الضحك، نزع القمع عن فراشة الدمع، سهرة مع الأشباح) وغيرها..
وفي اليوم الأول لمهرجان أبي تمام، وقرب مدخل الجامع الكبير في الموصل عند زيارة الضيوف له، جاءني صديقي القاص نجمان ياسين ومعه شخص ينظر إليَّ ويبتسم، وقف كل منهما أمامي، فقال نجمان : انظر جيدا إلي هذا الرجل.. أتعرف من هو؟ فتأملت فيه، وقبل أن أنطق، صاح نجمان: إنه محمد عفيفي مطر، فقفزت من الدهشة وأنا أعانقه وهو يعانقني، وتعرف حينها علي أدباء الموصل الشباب. ومنذ تلك اللحظة عاف عفيفي أروقة المهرجان وضيوفه ونزل بصحبتنا طيلة أيام المهرجان إلي شوارع الموصل وأزقتها.. تناولَ الكباب الموصلي معنا في المطاعم الشعبية، وشاركَنا الجلوس في المقاهي وتحدث إلي عشرات الناس بين أسواق المدينة، واستمع إلي قصائدنا وقصصنا واهتماماتنا وهمومنا.ودخل بيوتنا وتناول من موائدنا، نحن الأدباء(عبد الوهاب اسماعيل، نجمان ياسين، أمجد محمد سعيد، سالم العزاوي، وكاتب هذه السطور) ومما أذكره أنه أطلق عليَّ لقب الشاعر دو السن الذهبية، وعلي عبد الوهاب اسماعيل الشاعر البدوي، وظل يراسلنا بمحبة عميقة بعد أن غادر القطر.
ومنذ لقائنا في (أبي تمام) حتي يومنا هذا لم تنقطع صلتنا بالشاعر محمد عفيفي مطر، فقد ظل صديقا حميما التقينا به، عشرات المرات في العراق يوم عمل فيه محررا في مجلة الأقلام وفي القاهرة، وفي العديد من الملتقيات والمهرجانات.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.