فنان الريف الأول دون منازع.. وصوت ريفي آسر بامتياز.. بليل صداح في ملكوت الحب، يتلو آيات الصباح ويعزف مقامات الحب والجمال بأروع وأعذب الألحان.. وصوت اللوعة والفراق.. إنه الفنان القدير عبدالباسط عبسي مدرسة غنائية خاصة وخامة صوتية نادرة يندر أن تجد له فناناً من جيل الشباب يمكن أن يصل إلى عذوبة صوته، وحسن أدائه، وروعة ألحانه، وجودة اختياره للكلمات. فما إن تتهادى إلى مسامعنا أغنية من أغانيه، إلا ونتذكر القرية، ومرابع الصبا.. والحقول والمرادع ومواويل ومهاجل الفلاح وأغاني الرعاة.. وتحلق أرواحنا في السهول والجبال، تطوف القرى وتقطف الزهور والريحان والمشاقر والأُزاب.. نتذكر السفوح والمدرجات الزراعية الخضراء.. وأصالة الريف وعاداته وأعرافه.. وكيف يتقاسم الرجل والمرأة معاً لهيب الشمس، وهما يزرعان الأرض والشعاب.. في تآلف أخوي بروح التكافل مرددين المهاجل حتى وإن خرجا من القرية سرعان ما يعودان إليها ..حب أبدي للأرض. من قرية جازع وبكره راجع إلى المرادع أهجل بحولي أبوس ترابه واشوف ما به واعيد شبابه أنا وخلي هو صوت الأرض.. وأغنية الراعية وأهازيج المساء.. هو القمري المغرد والنسيم الحائر.. والنجم السامر فوق المصلى.. واقمري غرد ما عليك من هم خلك معك وانته بجنبه تنعم مش مثلي اتجرع كؤوس علقم سقيم بحالي بس ربي يعلم صوت يغرد بنا في روابي الحب وآفاق الجمال.. يعلمنا كيف نتذوق الحب ونتمتع بأحلام الوصل ودفء اللقاء.. وكيف نقطف أجمل اللحظات وأغلى القبل. أغنياته .. زاد العشاق والمكلومين.. لا تمل من التكرار والسماع يشدون بها من الضحى حتى قدوم الأصيل.. حتى لو لاح بارق أو تبسم الجو ..تبقى ظاهرة مضيئة كضوء الفجر. صوت الحب والحنين.. والبعد والهجرة والاغتراب.. وآهات الحزن والقهر والحرمان.. فلقد استطاع الفنان عبدالباسط عبسي بصوته العذب وألحانه البديعة والرائعة أن يصور لنا المآسي الحقيقية للبعد والهجران.. ويجسد آلام الغياب ومرارة الاغتراب.. فنراه في واحدة من روائع الشاعر الدكتور سلطان الصريمي في أغنية “مسعود هجر” يرسم لنا آلام البعد.. وقسوة الحياة.. وأحزان الوداع ولكم تزداد صورة الألم وضوحاً وإيلاماً وهو يبدأ بالشدو موالاً حزيناً: و اعمتي منو شقل لمسعود بعامنا الأول رُزقنا مولود مسعود هجر وخلف المصائب والبعد طال وزادت المتاعب ثم يبدأ بعد هذا المقطع بالغناء والعزف على النأي والغياب. هذه الأغنية هي قصة واقعية تجسد معاناة امرأة تعاني الغربة والهجران.. المرأة الريفية بالذات التي تعاني من التهميش والقهر والإذلال في ظل مجتمع ذكوري متهم بتسلطه وأنانيته.. وزاد من جمالية، وأصدق تعبير عن هذه القصة مؤادها للعذب والجميل بصوت ناي الريف الحزين عبدالباسط عبسي. فهذه الأغنية واحدة من درر ولآلئ الفنان عبدالباسط والتي قلما تجود قريحة شاعر بكلمات مثلها، أو لحن في غاية الروعة والإبداع، وبصوت ريفي متميز الأداء. فقد استطاع بهذه الأغنية وبفطرة بيئته الريفية أن يرسم الواقع المأساوي المرير ويعطيها بعداً جمالياً وذائقة فنية.. من قلة المصروف وكثرة الدين بكر مسافر فجر يوم الاثنين وقت الوداع سلم وقال مودع لا تحزني شاشقي سنة وشرجع شفارقك بعد الزواج بأسبوع العين تدمع والفؤاد مفجوع شاتذكر الحنا وحمرة الخد شاتذكر الزفة واليد باليد واليوم لا مكتوب ولا صدارة وعود خلي كلها خسارة مرت سنين والقلب مسكن الدود ما حد درى أين الحبيب موجود واعمتي كيف البصر بحالي ضاع الشباب وطالت الليالي قوتي القليل من الشقا مع الناس البسل أكل وجهي وشيب الراس واعمتي ابني هلك من الجوع الحب زلج وأني مريض مفجوع رك النظر وجرحوا السواعد وكم شكون صبري وكم شجاهد مقدرش عاد اشقي ولا اقدر اسأب ولا اتمهر ولا اطحن الحب شهرين مريض محد ظهر يراني يارب سامح الذي بلاني أحرقتني لا تبكي يا محمد الموت أفضل للفقير وأسعد أبوك نسي الحنا وحمرة الخد وأني الوفاء لحدي والموت يشهد وصيتي يا بني تكون شهادة لأن أبوك أحرمني السعادة لكن مسامع قد يكون معذور وربما هو الأخير مقبور قصة طافحة بالقهر والألم والحزب في أغنية زادها الفنان بصوته وتلحينها آلاما بعضها فوق بعض. إنه عبدالباسط عبسي .. سكب ضوءه وعطره وأغنياته وضمخها بنكهة ريفية ممزوجة بالأشجان والأحزان. له درر وروائع لا تنسى “ بردان .. حسنك لعب بالعقول.. يا نجم يا سامر فوق المصلى.. واقمري غرد .. يا طير ياللي .. متى وارعية شامطر.. سيل الحب، و..و..و وغيرها الكثير”. غنى للعديد من كبار الشعراء والأدباء أمثال: عبدالله عبدالوهاب نعمان “الفضول” الدكتور سلطان الصريمي ويكادان يشكلان ثنائياً ناجحاً ومحمد عبدالباري الفتيح وسعيد الشيباني وغيرهم..