كلما جاءت ذكرى غزوة بدر الكبرى تناولها معظم الخطباء في المساجد وبعض مجالس الذكر بالسرد المكرر لأحداث هذه الغزوة الفارقة بين الحق والباطل، فهي يوم الفرقان كما سماها الله عز وجل، وها نحن نعيش الذكرى هذا اليوم، وقد رأيتُ أن أتناولها بعيداً عن التناولات المكررة، فنحن في أمس الحاجة إلى استخلاص الدروس والعِبر التي نَتجَت عنها من عدة نواحٍ. أولاً: من الناحية العسكرية: - فائدة الاستطلاع العسكري الذي يسبق المعركة وأهميته في تحقيق النصر، فقد أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم دورية استطلاع إلى «ذفران»، وحصلت الدورية على خبر خروج قريش، كما علمت بهروب أبي سفيان بالقافلة. - عدم الاستخفاف بالعدو ، قل أو كثر، وهذه غلطة وقعت فيها قريش حين استخفت بالمسلمين بسبب قلة عددهم. - الإعداد الجيد للمعركة والأخذ بالأسباب، بعد الاتكال على الله تعالي، وقد كانت الإجراءات التي اتخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم سبباً مهماً في تحقيق ذلك النصر العظيم على قريش وأهمها: - التعبئة العسكرية الفريدة التي لم تألفها قريش وهي طريقة الصفوف. - السيطرة على موارد الماء وحرمان قريش من الاستفادة منها. - الإحصاء الجيد لعدد قريش، وقد استنتج صلى الله عليه وسلم ذلك من مقدار ما يذبحون من الجمال، فعندما سأل الجندي المرسل لهذه المهمة عن عدد ما يذبحون.. أجاب: بأنهم يذبحون ما بين (9 - 10) جمال. قال عليه الصلاة والسلام: هم بين التسعمائة والألف..! - الاهتمام بالجانب النفسي والروح المعنوية للجنود وهذا ما تقوم به أحدث الجيوش اليوم، فقد ركز رسول الله صلى الله عليه وسلم على ترسيخ العقيدة ورغّب في الجهاد حتى أن عمر بن الحمام «رمى التمرات التي في يده وراح يقاتل وهو يقول: «بخٍ بخٍ، ليس بيني وبين الجنة إلا هذه التمرات».!! الأسرى: لقد شاور رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه فيهم كما شاورهم من قبل في خوض المعركة، وقد أخذ الرسول بكل الآراء، فقد أمر بقتل عقبة بن أبي معيط والنظر بن الحارث على أنهما مجرمو حرب وليسا أسيرين، كما منَّ بالعفو عن أبي عزة الجحمي الشاعر وأبي العاص بن الربيع ،وأخذ الفداء من أخ مصعب بن الزبير وعمه العباس بن عبدالمطلب.. ولم يكن هذا القرار منه صلى الله عليه وسلم، هو مراد الله عز وجل ولهذا عاتبه الله عز وجل عليه بقوله: «ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض»، ثم عفى الله عز وجل عنه وعن الصحابة رضي الله عنهم.. وهذا التعامل مع الأسرى من قبل المسلمين هو ما تنادي به اليوم المنظمات الدولية لحقوق الإنسان، وأرقى أنواع التعامل فقد كان الصحابة رضي الله عنهم يحرمون أنفسهم من أطيب الغذاء ويقدمونه لأسراهم بعد وصية النبي صلى الله عليه وسلم بهم. الغنائم: بما إن المال هو سبب لكثير من الفتن فقد تولى الله عز وجل قسمة الغنائم بين المسلمين وأعلم رسوله بذلك في سورة الأنفال. .. ومن أهم نتائج هذه المعركة: - ظهور قوة جديدة في جزيرة العرب تمثلت بالمسلمين بعد أن كانت قريش هي القوة العظمى وقد ضعفت هيبتها بعد بدر. - استرداد بعض أموال المسلمين التي صادرتها قريش بسبب إسلامهم. - فتح آفاق جديدة أمام الدعوة الإسلامية فقد أقبل الناس على الإسلام بعد أن أحجموا بسبب الخوف من قريش. - سيطرة المسلمين على طرق القوافل وتمكنهم من محاصرة قريش. - تنامي الحقد اليهودي ضد المسلمين في المدينة والبدء بحياكة المؤامرات والدسائس التي توجت بغزوة الخندق. والأمر الذي يجب الانتباه له هو أن المسلمين أخذوا بكل أسباب النصر وتوكلوا على الله ولم يتواكلوا برغم قلتهم وقلة عدتهم ويمكن إيجاز الأسباب باختصار فيما يأتي: - قيادة موحدة تتمتع بالكفاءة والحنكة تمثلت في الرسول صلى الله عليه وسلم. - الشورى في كل الأمور فكان القرار جماعياً. - جنود منضبطون ملتزمون بالأوامر. - عقيدة راسخة وثبات لا يتزعزع. - معنويات عالية رغم قلة السلاح فقد كانت لهم فرس واحدة مع المقداد بن الأسود والباقون مشاة ولهم سبعون جملاً فقط يتعاقبون عليها. وقد كانت هذه الغزوة المباركة بداية التحرر من الشرك الذي انتهى فعلياً بفتح مكة في مثل هذا الشهر الكريم. لابد أن نعلم أن الله عز وجل هو الناصر وهو لم يتخل يوماً عن المؤمنين. ولكنه عز وجل وجههم إلى ضرورة الأخذ بأسباب النصر فقال عزّ من قائل: «إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم»، وقال: «وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل». ونحن اليوم وللأسف ملايين بل مئات الملايين لم نأخذ بأسباب النصر والقوة التي أمرنا بها، ولهذا تتالت علينا الهزائم المنكرة من قبل عدو أو أعداء هم أقل عدداً ثم انتصرت أحزاب وحركات على هذا العدو لا لشيء إلا أنهم أخذوا بالتوجيهات الربانية فالهدف الواضح والمبدأ السليم والثبات عليه أحد أهم أسباب النصر. ولنا في رسول الله أسوة حسنة، فهو يقول: «والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر لن أتركه حتى يظهره الله أو أهلك دونه»، هذا وهو في مكة وحده مطارد مضطهد ليس له ناصر إلا الله عز وجل. فهل تكون الذكرى سبباً في العودة إلى الله عز وجل والعمل بتوجيهاته لننال النصر؟ أم سيظل الحال على ماهو عليه؟؟. إن سنن الله في الكون لا تتغير ولن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا، فكل من عمل بالأسباب نال نتائجها في هذه الدنيا سواء كان كافراً أو مسلماً، نسأل الله عز وجل أن يردنا إليه رداً جميلاً، وكل عام وأنتم بخير.